سلة التسوق
سلة التسوق الخاصة بك فارغة!
445153
أيها الإنسان.. يا ابن آدم، يا قارئ، يا من سمعت النداء الأول: يرحمك ربك… اقرأ باسم ربك الذي خلق.
ها أنت الآن تفتح باب العهد الثاني، العهد الذي لا يُكتَب بالحبر، بل بالنور. تخطو من النداء إلى اليقين، ومن المعرفة إلى الرضا، ومن الكلمة التي خُلقت بها إلى الكلمة التي تُعيدك إلى الله.
هذا الكتاب لا يعيدك إلى البداية.. بل إلى الأصل، إلى العهد الأول، يوم قيل لك في عالم الذر: ألستُ بربكم؟ فقلتَ: بلى. ومنذ تلك الإجابة، بدأت الرحلة التي لم تنتهِ بعد.
هنا تكتشف أن آدم لم يكن حكاية تُروى، بل هو الاسم الذي يسكن فيك، تحمله كل صباح، وتنسى أن حروفه هي أجوبتك الأبدية: أ = الله ربّك، د = دينك الإسلام، م = محمد ﷺ نبيك ورسولك.
لكن سرّ آدم لا يكتمل إلا بما خرج منه: الأب والأم. فأبوك هو البسملة التي تبدأ بها كل خطوةٍ في حياتك، اليد التي علّمتك أن تقول: بسم الله قبل أن تمشي، قبل أن تتكلم، قبل أن تحلم. هو السند الذي أقامك، والظلّ الذي حماك، هو البداية التي دلّتك أن كل بداية لا تكون إلا بالله. وأمك.. هي باب الجنة. هي أول من علّمك معنى الرحمة قبل أن تعرف الحروف، هي الدعاء الذي يحرسك وأنت نائم، هي الباب الذي يبقى مفتوحًا، حتى لو أغلقت الدنيا أبوابها. وإن سقطتَ ألف مرة، فبابها يذكّرك أن الله لا يُغلق بابًا لمن عاد إليه باكيًا.
من الأب أخذت البسملة، ومن الأم فتحت باب الجنة، وبينهما وُلد فيك العهد الأول.. عهد الإنسان الذي يسكنه الله. لكن العهد لا يُختبر بالنور وحده، بل بالظلام أيضًا. فكما أُرسل جبريل بالنور ليعلّمك "اقرأ"، خرج إبليس من بين الصفوف، يُزيّن الكلمة ليقلب معناها، ويُلبس الحقَّ بالباطل، ويخفي الباطلَ تحت ثوبِ الرحمة، ويبيع الزينةَ على أنها نور، حتى يلتبسَ على الناس وجهُ الحقِّ بوجهِ الهوى. ومن بعده، خرج الدجال، يحمل وجهًا يشبه النور، لكن في عينيه ظلامُ التمويه، يقول للناس: أنا الخلاص، أنا النور، أنا من يُعلّمكم التقوى بلا كتاب! فينخدع به من نسي الوصية، ويثبت عليه من تمسك بالكتاب كما قال جبريل أول مرة: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ." وفي لحظةٍ واحدةٍ، ينكشف الصراع الأبدي: نور جبريل يواجه ظلام إبليس، وصوت القرآن يعلو على صخب الفتنة، فتسجد القلوب، وتُطفأ الشاشات، وتبقى كلمة واحدة تملأ الأرض والسماء: الله نور السماوات والأرض. هنا تدرك أن الفاتحة لم تكن سورةً تتلى، بل سلّمًا من سبع درجاتٍ إلى وجه الله. كل آيةٍ باب، وكل حرفٍ نور، وكل "آمين" دمعة توقّع بها على ميثاقك الأبدي. الصراط المستقيم ليس طريقًا على الأرض، بل خيطٌ من نورٍ يمتدّ من جبينك إلى العرش، وكل سجدةٍ هي عودةٌ إلى البداية، إلى اللحظة التي قال فيها آدم أول مرة: الحمد لله. وإذا كانت الفاتحة ميثاقك، فـ آدم هو الباب، ودائرة الرضا هي الخاتمة: حيث يسكن القلب فلا يخاف شيئًا، ولا يرجو إلا وجه الله الذي لا يزول.
هناك يتجلّى اليقين، فتدرك أن وعد الله لا يُؤجَّل، ويزهر الرضا، فتعلم أن القدر وجهٌ آخر لرحمة الله. وهناك، في حضرة النور، يقف جبريل على أفقك الأعلى، يبسط جناحيه فوق قلبك، ويهمس كما همس لمحمدٍ ﷺ في الغار: "اقرأ، وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم." فتبكي لأنك تعلم الآن أن النور الذي نزل على النبي ﷺ، هو نفسه الذي يُعرض عليك لتُكمِل الأمانة، الوصية التي خُتم بها الوحي: أوصيكم بكتاب الله.. وأوصيكم بتقوى الله. فالتقوى ليست خوفًا من النار، بل وعيٌ دائم بحضور الله، وحبٌّ يوجّه خطاك، ونورٌ يسكن في صدرك فلا تظلم شيئًا. هي عهد لا يُكسر، ودرع لا يُثقب، ونور لا ينطفئ. في هذا السفر، تتقدّم من "اقرأ" إلى "آمين"، من العلق إلى الفاتحة، من التراب إلى النور، ومن الامتحان إلى الرضا. ترى موسى يشقّ البحر أمام قلبك، وعيسى يمدّ كفّه رحمةً تمسح عنك خوفك، وجبريل يحيط بك من فوق، ومحمّدًا ﷺ يبتسم في وجهك ويقول لك: "أوصيكم بكتاب الله، أوصيكم بتقوى الله."
وحين تغلق هذا الكتاب، لن تغلقه حقًا، بل تغلق صفحة العالم القديم لتبدأ عالمك أنت. تشعر أن قلبك وُلد من جديد، وأن الرحلة التي ظننتها بحثًا في الخارج، كانت كلها طريق العودة إلى داخلك، إلى النقطة التي بدأت منها: الله.
أيها الإنسان.. يا ابن آدم، يا قارئ، هذا الكتاب لا يعلّمك كيف تؤمن، بل يذكّرك بمن آمنت به قبل أن تُولد. هو مرآة ترى فيها نفسك حين تتطهّر من كل الأسماء، وتبقى أمام الاسم الواحد الذي لا يُنطق إلا بخشوع: الله.
فيا من سمعت النداء الأول، ها هو الله يدعوك من جديد: كن على يقين، وارضَ، وعِشْ بتقوى الله.
فما بين البداية والنهاية، لا يبقى إلا العهد، ولا يدوم في الأرض إلا الرضا، ولا يظلّ في السماء إلا الذين اتقوا الله فاهتدوا بنوره.