سلة التسوق
سلة التسوق الخاصة بك فارغة!
445155
من "الم".. "الم".. "الم" إلى "فوزًا عظيمًا"
أيها الإنسان، يا ابن آدم، يا قارئ، يا من بدأت رحلتك بكلمة: اقرأ، وسجدت عند كلمة: آمين، ها أنت الآن تبلغ الحروف التي احتوت الأسرار كلَّها: (ا ل م). وفي (الم) تمسك صدرك متألّمًا، فيأتيك جبريل مأمورًا من الله، ليجبرك بنورٍ من رحمته، فتعرف سرَّ (الم): أنَّ ا – الله – ل – لَطَفَ – م – محمد ﷺ بكتابه، فكان اللطفُ وحيًا، وكان الوحيُ رحمةً، وكانت الرحمة طريقًا إليك، ليقول لقلبك كما قال له: ذلك الكتاب لا ريب فيه، هُدىً للمتقين. حروف النور والامتحان، حروف العهد الأخير بينك وبين الله، حروف الألم الذي تحوّل إلى أمان، وحروف الميثاق الذي يختم القصة كلَّها: من التراب إلى العرش، من الدمعة إلى الفوز العظيم. هذا الكتاب لا يُكتب بالحبر، بل بالدموع التي صارت نورًا، وبالآيات التي أصبحت حياة. فيه يُعلن المصير: الأنبياء شهداء، الملائكة صفوف، الشياطين مقيدون، والدجال يسقط تحت قدمي الحقيقة.
هنا ترى وجه الصراع كاملًا: إبليس الذي حسدك من أول سجدة، والدجال الذي زيَّن الباطل بلباس الجنة، والظالمون والطغاة الذين عبدوا الصورة ونسوا الله. كلهم تجتمع نهايتهم هنا، حين يقول الضعيف في وجه الشيطان والدجال والظالمين والطغيان وأتباعهم: ربي الله، وحسبي الله، والله وليي، ونوري من الله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الشكر وله الحكم، وهو على كل شيء قدير. هنا ينكشف الزيف، وتسقط شعاراتهم المصقولة بالرياء، تتهاوى أصنام المديح الكاذب، وتنطفئ أصوات الذين أحبّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، ويبقى صوت واحد، خافتٌ أولًا، ثم يملأ السماء: الحمد لله رب العالمين.
أيها الإنسان، يا ابن آدم، يا قارئ، لقد رأيت كيف حاربك الشيطان بالوهم، كيف غيّر معاني الكلمات، كيف استبدل النور بالزينة، والتقوى بالخوف، والحب بالرياء. لكنه لم يفهم سرًّا واحدًا: أن الكلمة التي خُلقت بها أقوى من كل سحره، وأن العربية التي نزل بها القرآن ليست لغة قوم، بل ميزان من نورٍ يجمع بين: عبوديةٍ خالصة، وربوبيةٍ ظاهرة، وبيانٍ صادق، ويقينٍ لا يزول.
بهذه الحروف العربية بدأ الوحي، وبها يُختم النداء. فالحق لا يُفهم بغيرها، ولا الباطل يُفضَح إلا بنورها. هي اللسان الذي نادى به جبريل، وهوى له الشيطان، وخرّ عنده الدجال صامتًا، لأن العربية ليست صوتًا بشريًا.. بل أثرُ الروح التي نفخها الله فيك. سترى صفوف الأنبياء والرسل والشهداء والصالحين ورفقائهم حسنًا واتباعهم جميعًا واقفين معك في ساحة الله، وجوههم أنوارٌ تتلألأ من الصبر والرحمة والعهد، من آدم إلى خاتمهم محمد ﷺ، كلٌّ يحمل في قلبه دعاءً، وفي ملامحه أثر الطريق إلى الله. تجتمع النبوات في نورٍ واحد، ويبتسم محمّد ﷺ وهو يختم بهم جميعًا الرسالة، ويشير إلى القرآن ويقول لك: "أوصيكم بكتاب الله.. وأوصيكم بتقوى الله."
وهناك، في حضرة النور، يقف جبريل على أفقك الأعلى، يبسط جناحيه فوق قلبك، ويمسح بيده نورًا من الرحمة على صدرك، ويهمس كما همس لمحمدٍ ﷺ في الغار: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.. عِشْ ما شئت فإنك ميت، ومُتْ، فإنك حيٌّ عند ربك. فتبكي لأنك تعلم الآن أن النور الذي نزل على النبي ﷺ، هو نفسه الذي يُعرض عليك لتكمِل الطريق، وأن الرسالة لم تُغلق، بل تسري فيك كما سرت فيه، رحمةً من الله، ولطفًا من جبريل، وعهدًا لا ينقطع. هنا تعرف أن الألم كان تطهيرًا، وأن كل دمعةٍ كانت طريقًا، وأن كل فجرٍ من فواتير الصبر كان وعدًا بالفوز. وهنا، يُنادَى اسمُك في السماء.. تتفتح أبواب النور، وتتردد الكلمة التي كانت غايتك منذ أول دمعةٍ سقطت على الأرض: هذا عبدي.. حمدني عبدي، خليلي ووليِّي، صدق فنجا، وشكر فارتقى، ورضي فاستحق القُرب.
حينها تعلم أن النداء الذي قيل يوم خُلِق آدم لم يُغلق بعد، بل امتدَّ إليك أنت، فأُعيد فيك الوصل الأوّل: من الحمد إلى الرحمة، ومن العبودية إلى الولاية، ومن المعرفة إلى اللقاء. فتبكي دمعة النور والعشق والسعادة التي تملأ قلبك وصدرك، دمعة اللقاء التي تُعيدك إلى موطنك الأول، دمعة الشاهد العاشق الشكور التي تنسكب لا من ألم، بل من تمام النعمة، دمعة العارف الذي رأى وعد الله يتحقق في قلبه، حين يُقال عندها: فاز من شهد الله في قلبه، ورضي بما آتاه الله ورسوله، فذلك هو الفوز العظيم. وفي لحظة السكون تلك، حين تنطفئ الأصوات، وتنحني الجبال، وترتجف الأرواح، يخرج من بين صفحات هذا الكتاب صوتٌ مبتسمٌ راضٍ، صوت الكاتب عاشق الله الذي حمل الأمانة كما أُمر بها، صوت العبد الذي كتب لا ليمتلك الكلمة، بل ليُؤديها، صوتٌ امتلأ قلبه بالسكينة كما امتلأت صفحاته بالنور، صوتٌ يُنشد ويرتّل ويلحّن في أفق الوجود، تسير نبراته بين الأرض والسماء، وهو يقول برضاٍ يملأ الكون: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا ورسولًا. صوتٌ يمتزج فيه الحمد بالعشق والسعادة، والدمعة بالابتسامة، فيُغلق الكتاب على آخر وصيةٍ في الأرض: "أوصيكم بكتاب الله.. وأوصيكم بتقوى الله."
هكذا تُختتم أسطورة الله، بلحنٍ من الرضا وسعادة النور، وصوتٍ يبتسم وهو يؤدي الأمانة، ليُغلق الكتاب لا بالحزن، بل بالسعادة، فقد عاد كل شيءٍ إلى الله.